فنّ التمــويه عبر التــاريخ

في التاريخ، استخدمت الشعوب المحتلة الرموز، اللغة، الحكاية، والنشيد كأدوات لحماية الذات من الذوبان في رواية المستعمر.
ومع تطور أدوات السيطرة وتحوّل المعركة إلى المجال الرقمي، بات لزامًا على الفاعل الثقافي والإعلامي أن يطوّر أدواته وأنماط تعبيره بما يتناسب مع بيئة أصبحت فيها المنصات نفسها جزءًا من آلة السيطرة.

الإبداع المقاوم في العصر الرقمي لا ينفصل عن الواقع السياسي. هو نتاج وعي جماعي يسعى للحفاظ على السردية الأصلية من التهميش و التشويه. وهو أيضًا شكل من أشكال "التحايل" على أنظمة تصنيف المحتوى التي لا تعترف بعدالة القضايا، بل تقيس شرعية الخطاب بمقاييس منحازة ومبهمة.

  الانتفاضة الفلسطينية الأولى وبروز الخطاب الرمزي

خلال الانتفاضة الأولى، انتشرت الكتابات على الجدران كشكل مقاومة رمزية تتجاوز الرقابة العسكرية الإسرائيلية. كما لجأت الحركات إلى أناشيد محلية ومرمّزة تحاكي المعاناة وتُعبّر عن التمسّك بالهوية، مستخدمة أسماء رمزية للرموز والشهداء في محاولة للهرب من الاستهداف المباشر.

الحرب الباردة: الإعلام الرمزي ومقاومة الرقابة السوفييتية

في ظل الرقابة المشددة داخل الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية، ابتكر الفنانون والكتّاب ما يُعرف بـاللغة تحت الأرض (Samizdat): وهي طريقة توزيع الكتب والمقالات بشكل سرّي ومشفّر، غالبًا عبر نسخ يدوية. كما لجأوا إلى الشيفرة الثقافية؛ كأن يُنتج فيلم يبدو ظاهريًا عن الحب، لكنه في العمق يعبّر عن قمع الدولة

  الحرب العالمية الثانية: الشيفرات العسكرية والرسائل الخفية

خلال الحرب العالمية الثانية، برزت الشيفرات كأداة مركزية في الصراع بين الدول. استخدمت الجيوش رسائل مشفّرة لحماية الخطط العسكرية، أبرزها آلة إنجما التي استخدمها النازيون، وتمكنت الاستخبارات البريطانية بقيادة آلان تورينغ من فكها، مما غيّر مجرى الحرب. في الوقت نفسه، استخدم العسكريون في فرنسا وأوروبا الشرقية رموزًا في الصحف السرية لتوصيل رسائل دون كشفهم من قبل الأنظمة الفاشية.

الآن – مقاومة خوارزميات ميتا: 

خلال الحروب الإسرائيلية على غزة، والحرب على لبنان، فرضت منصات مثل إنستغرام وفيسبوك قيودًا مشددة على المحتوى الداعم للمقاومة لجأ بسببها رواد مواقع التواصل الاجتماعي وصناع المحتوى الى استبدال العديد من الكلمات المحظورة برموز تعبر عنها كحز البطيخ للتعبير عن فلسطين ووردة شقائق .النعمان للرمز الى الشهيد. كما واضطروا الى تغيير كتابة ولفظ بعض الكلمات بإدخال حروف أجنبية عليها كي لا ترصدها الخوارزميات  ككلمة مقاومة 

  الربيع العربي وصعود المقاومة الرقمية

شهدت ثورات الربيع العربي اعتمادًا غير مسبوق على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ازدياد الرقابة، بدأت تظهر الرموز البصرية والوسوم المشفرة، مثل استخدام الهاشتاغات التي تحمل أسماء رمزية، أو نشر صور دون تعليقات واضحة لتجاوز الحظر. ظهر أيضًا ما يُعرف بـ "meme activism" أو، حيث تُستخدم الصور الساخرة كأداة مشفّرة لنقد الأنظمة دون الوقوع في فخ الرقابة.

الحرب على "الإرهاب" وخطاب الشيفرة الإسلامية

بعد أحداث 11 سبتمبر، أصبحت كل إشارة للمقاومة، خصوصًا الإسلامية، معرضة للتجريم على مستوى عالمي. أدى ذلك إلى ظهور خطاب مزدوج في بعض وسائل الإعلام والمنابر، حيث يُستخدم الترميز الديني أو الثقافي للإشارة إلى صراعات سياسية. ومواقع الإنترنت البديلة والمنتديات كانت ساحة لهذه اللغة المتحوّلة التي تهرب من خوارزميات المراقبة الغربية المبكرة.

طرق التحايل على الخوارزميات

.من أجل إيصال الرسائل اضطر صناع المحتوى للجوء الى طرق مختلفة والتفكير خارج الصندوق
يعرض لنا حسن في حديثه أساليب عديدة ابتدعها واعتمدها على صفحة" بالأملية" كي يوصل رسالته.
وقد توزعت الاساليب على الشكل التالي: 
الاسقاط-  
اخفاء الصوت اثناء ذكر الكلمات التي تحذف- 
الترميز-   

ما دلالة استخدام الرموز؟

تندرج الرموز البصرية التي استخدمها اعلام المقاومة ضمن ما يُعرف بالسيميائيات، أي علم العلامات والإشارات التي تُنتجها الجماعات للتواصل داخل ثقافتها ومحيطها. فالأيقونات التي تظهر في هذا النوع من المحتوى، مثل الدائرة الحمراء او المثلث المقلوب ليست مجرد عناصر بصرية، بل هي أفعال ثقافية بامتياز و أدوات تُنتج دلالة وتراكم ذاكرة جماعية مقاومة داخل بيئة رقمية معادية.

هذه الرموز تعمل على ترسيخ المعنى في ذهن الجمهور دون الحاجة إلى شرح مباشر، وتؤسس علاقة سرّية وديناميكية بين المرسل والمتلقي ضمن سياق اجتماعي وثقافي مشترك. فالإنسان، بوصفه كائنًا رمزيًا، يملك قدرة فطرية على تحويل العلامات إلى لغات بديلة، تسمح بتمرير الرسائل بعيدًا عن أنظمة الحظر القمعية. وهكذا، تتحوّل الصورة أو الإشارة إلى لغة مقاومة تحمل في طياتها دلالة وشهادة وسردًا مضمَرًا، يصعب محوه أو تحييده.

من يصنع هذه اللغة البصرية؟
ومن يمنح الرمز شكله ووزنه في لحظة الحرب؟

التصميم هنا ليس مجرد خيار جمالي، بل فعل واعٍ وموجّه يحمل موقفًا سياسيًا ورسالة ثقافية مشفّرة.
في المقطع التالي، يشاركنا المصمم علي بسام رؤيته حول الشعارات التي رافقت الحرب الأخيرة، وكيف تشكّلت هذه الرموز ضمن سياق بصري مقاوم، يأخذ من الذاكرة الشعبية والثقافة السياسية موادّه الأساسية، ليصوغ خطابًا قادرًا على الصمود في وجه الخوارزميات والنسيان معًا.

 يمكنكم الاطلاع على هذه التصاميم عبر الضغط على هذا اللينك

يشارك عباس بيطار  صانع المحتوى على منصة انستغرام تجربته في توظيف الرموز داخل المحتوى البصري المقاوم، كأداة بديلة عن الكلمات المحظورة والمصطلحات المستهدفة. يتحدّث عن كيف أصبح الرمز ليس مجرّد عنصر تجميلي في الفيديو، بل لغة قائمة بذاتها، ففي بعض الأحيان يكتفي عباس بوضع الدائرة الحمراء مع إشارة تحية في الوصف فيفهم الجمهور ان محتوى المنشور هو عن المقاومة في جنوب لبنان.

كيف يمكن استغلال التريندز المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل إيصال الرسالة؟ 

إن نقطة الانطلاق في أي محتوى مقاوم ليست فقط في الرسالة، بل في معرفة كيف تصل هذه الرسالة إلى جمهوره، التفكير في الجمهور المستهدف ليس تفصيلًا، بل جزء أساسي من العمل: "أنا كيف سأصل إليه؟" – هذا هو السؤال الجوهري. 

يذكر حسن انه كما من الممكن لصانع المحتوى أن يستفيد من الألحان المحفورة في الذاكرة الشعبية بإمكانه الاستفادة من الترندات المنتشرة، فيعيد توظيفها بشكل يخدم قضيته دون أن يُقصى عن الفضاء الرقمي. 

وبدلًا من مواجهة الخوارزميات بشكل مباشر، يقوم باستثمار الشكل السائد: فيديوهات تقليدية، صيغ مألوفة، أو نغمة منتشرة، ثم يزرع داخلها مضمونًا مختلفًا يحمل موقفًا أو فكرة أو نقدًا. هذه الطريقة تُخفي الرسالة داخل قالب متوقَّع، فتسمح بوصولها دون أن تُرصد أو تُحذف
  
هذا النوع من العمل لا يعني اتباع التريند بشكل سطحي، بل تحويله إلى أداة اختراق ذكي للوعي الرقمي، وإعادة توجيه الرسائل عبر قوالب تُشعر المتلقي بالألفة، لكنها تحمل معنى جديدًا بين السطور

ومن أجل إيصال هذه الرسائل، لم يكن مواكبة الترند هو الوسيلة الوحيدة استدعت الظروف أن يلجأ المصممون للأداة الأكثر سرعةً وتطورًا في عصرنا الحالي أي الذكاء الاصطناعي. يخبرنا المصمم علي بسام كيف وظفوا أدوات الذكاء الاصطناعي لصناعة هكذا نوع من المحتوى .